إن
الله تبارك اسمه هو المعطي الحقيقي, والمعطي الأعظم. إنه يعطي الكل:
يعطي فوق ما نطلب, ويعطي دون أن نطلب. لقد أعطانا نعمة الوجود,
ونعمة الحياة, وأعطانا أيضا نعمة العقل, وأعطانا خيرات, وكل ما
نملكه هو من عنده.
وقد
كلفنا الله أن نعطي الفقراء والمحتاجين, وأن نعطي دور العبادة, ونعطي
الجمعيات الخيرية التي تختص برعاية الأيتام أو الأرامل أو المرضي أو
المعاقين, وأن كل عطاء من هذا النوع يعتبر كأنه مقدم إلي الله نفسه,
أو من حقوق الله علينا في مالنا, ونحن حينما نعطي لله إنما نقول له كما
قال داود النبي من قبل: الكل منك, ونحن من يدك أعطيناك.
وفي
التدريب علي العطاء أراد الله من الإنسان أن يعطي شيئا من كل ما يصل إلي
يده, وليكن علي الأقل عشر ما عنده, ولهذا وردت وصية العشور في التوراة
من أيام موسي النبي, والمقصود بالعشور ليس أن تكون كل كمية العطاء,
وإنما هي الحد الأدني للعطاء, لأنه من غير المعقول, إن دفعت العشور,
ثم قصدك بعد ذلك شخص محتاج أو معوز, أن تقول له: ليس عندي ما أعطيك
إياه, لأني انتهيت من دفع عشوري, واستوفي الله حقه من مالي!!
إن دفع العشور عند اليهود والمسيحيين يقابل الزكاة عند المسلمين, فهل العشور هي كل ما أمر به الله في التوراة؟ كلا.
فبالإضافة
إلي العشور, هناك الوصايا الخاصة بالبكور والنذور, وكان المقصود
بالبكور قديما أن يعطي الإنسان كل بكر تلده بهائمه أو أغنامه, وأن يعطي
ثمر شجرة في السنة الأولي للإثمار, وأيضا أول حصيد أرضه.
ولما
كنا لا نعيش كلنا في بيئة زراعية, فالبكور حاليا بالنسبة إلي الموظف أن
يدفع أول مرتب يقبضه, وبالنسبة إلي الطبيب أول كشف وأجرة أول عملية,
وبالمثل مع باقي المهن.
أما النذور فقانونها هو خير لك ألا تنذر, من أن تنذر ولا تفي, والنذور لا تؤجلها ولا تلغيها ولا تستبدلها.
هناك من العطاء قاعدتان ذكرهما سليمان الحكيم هما:
ـ لا تمنع الخير عن أهله, حين يكون في طاقة
يدك أن تفعله.
ـ لا تقل لصاحبك تعال غدا فأعطيك, وموجود عندك.
وفي
هاتين القاعدتين يرتفع العطاء عن مستوي العشور, ويصبح الواجب علي
الإنسان أن يعطي مادام ذلك في قدرته, وأيضا لا يؤخر العطاء ولا يؤجله.
أما من
جهة النذور فكانت وصية الله هي خير لك ألا تنذر, من أن تنذر ولا تفي,
والنذر هو عطاء اختياري يقدمه الشخص, لكنه ملزم بالوفاء به, ولا يجوز
تغيير النذر أو تأجيله أو إلغاؤه, فإذا اضطر الإنسان للتأجيل لظروف
ضاغطة, فهذا علي الأقل أفضل من عدم الوفاء بالنذر.
العطاء
أيضا لا يقتصر علي الماديات, إنما يطلب الله منك أن تعطيه يوما في
الأسبوع يكون له نسميه يوم الرب وهو الأحد عند المسيحيين, والسبت عند
اليهود, والجمعة عند المسلمين.
كذلك من جهة الوقت تطبق عليه أيضا وصية البكور, فيكون أول اليوم لله, سواء في
صلاة الفجر أو صلاة باكر, أو علي الأقل يكون أول من تكلمه هوالله في صلاة خاصة.
إن
العطاء هو نوع من البذل, والتخلص من الذاتية, وفيه أيضا شيء من
التجرد, والتخلص من حب المال ومن حب الجمع والتكويم, ومن حب المقتنيات
والممتلكات, وقد قال السيد المسيح: مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ.
لذلك
كل يوم يمر عليك دون أن تعطي فيه شيئا لغيرك, لا تعتبره من حياتك,
واليوم الذي يكون كله أخذا لا تحسبه مكسبا, إلا لو كنت تأخذ لكي تعطي,
لهذا فكل ما يصل إلي يديك, درب نفسك أن تعطي منه شيئا لغيرك, ولا
تنفرد به.
درب
نفسك أيضا علي أن تعطي أفضل ما عندك, ولا تبحث عن الأشياء المرفوضة
منه, فتعطيها للفقراء والمحتاجين, بل أعط ما تحبه نفسك, وما تشعر
برغبة في التمسك به.
وهناك
درجة عالية في العطاء, وهي أن تعطي من أعوزك, أو أن تعطي وأنت محتاج
إلي ما تعطيه, وهنا تظهر أنك في محبتك لغيرك تفضله علي نفسك.
والذي
يحب العطاء يفرح بما يعطيه لغيره, وقد قال داود النبي في المزمور:
المعطي بسرور يحبه الرب, والرب نفسه يعطي خليقته بسرور, نقول ذلك لأن
البعض يعطي وهو متضايق ومتذمر, ويشعر أن الذين يأخذون منه يرهقونه,
مثل هذا الشخص إنما يعطي من جيبه وليس من قلبه! أما الإنسان الروحي فإنه
يفرح حينما يعطي, إذ يشعر أنه قد أسعد غيره, أو فك ضيق أي إنسان,
وفرحه يدل علي رضا في القلب, وراحة بالعطاء.
فضيلة
أخري في العطاء, أن تعطي بسخاء بلا تقتير, لا تعط وأنت تحاسب الله
والناس علي ما تعطيه, الله نفسه في عطائه لا يعطي بكيل أو بقدر, إنما
يفتح كوي السماء ويغدق علينا حتي نقول كفانا كفانا, كما أنه يعطي
بمداومة.
هناك
درجة أعلي في العطاء وهي أن يعطي الإنسان كل ما يملك, وهذا ما فعله
القديس الأنبا أنطونيوس أبو جميع الرهبان, الذي نفذ وصية السيد المسيح
القائلة: إن أردت أن تتبعني اذهب بع كل مالك واعطه للفقراء, وتعال
اتبعني, ولاشك أن هذه درجة من الكمال والتجرد لا يستطيعها كل أحد,
إنما هي خاصة بالنساك والزاهدين, وهي أفضل من الإعطاء من العوز, والذي
يعطي الكل إنما يبرهن علي أنه لم تعد في قلبه أية شهوة لامتلاك شيء.
علي أنه أعلي درجة في العطاء هي أن يعطي الإنسان ذاته, كما يبذل الجندي ذاته في الدفاع عن وطنه, وكما يفدي شخص غيره بحياته.
ومثال
هذا العطاء: الشمعة التي تذوب وتنتهي لكي تنير للآخرين, وأيضا حبة
البخور التي تحترق بالنار لكي تقدم رائحة ذكية لغيرها, فإن كنت أنت لا
تستطيع أن تبذل ذاتك لغيرك, فعلي الأقل أعطه قلبك وحبك.
بقي
أن أقول لك: إنما في كل ما تعطيه إنما تكال بركة, فما تعطيه من مالك
تأخذ في مقابله بركة لما يبقي من مالك, وما تعطيه من وقتك إنما يبارك كل
وقتك.
لهذا كله درب نفسك علي العطاء, ودرب أطفالك كأن تجعلهم يقدمون الحلوي للضيوف, أو تشجعهم علي إعطاء اخوتهم وأصدقائهم.