جاءني وهو في غاية الإضطراب والقلق، وقال
لي: " هناك خطر يُهدِّد البلد كله ". فقلت: " أتقصد دولة تريد
محاربتنا من الخارج؟ ". فقال: " كلا، إنه عدو يحيط بنا في كل مكان. بل
إنه يوجد أحياناً داخلنا ". فسألته: " ألعلك تقصد الشيطان؟ ".
أجابني: " لست أقصد الشيطان. إنما أقصد الميكروبات... التلوث الماء ملوث،
والجو ملوث. وما تنفثه المصانع والعربات من الدخان، وما يُلقَى في الماء من
القاذورات. وما تُسبِّبَه أحياناً بعض الأدوات الطبية غير المُعقَّمة تماماً.
والعدوى التي تأتي من المرضى الذين يتحركون هنا وهناك بغير علاج ... كل هذا وغيره
خطر يُهدِّد الناس ".
وطفق هذا الأخ يتحدَّث عن المرض والتلوث والميكروبات حديثاً مستفيضاً يُكرِّره في
أُذن كل مَن يقابله، في حماس شديد. إنه موضوع قد دخل في بؤرة تفكيره واستقرّ، وصار
يشغل ذهنه باستمرار. وأصبح يهتم بنقاء الجو من الميكروبات، أكثر مما يهتم بنقاء
قلبه وأفكاره من الخطايا والشهوات وكيفية التَّخلُّص منها ... إنه واحد من الذين
يعيشون خارج أنفسهم
««
شخص آخر تشغله الأخبار. هى أوَّل ما يهتم بقراءته حينما يطَّلع على جرائد الصباح،
ويُتابعها في كل الصُّحف، ويُقارن ويدرس ويستنتج، ويتوقَّع ما سوف يحدث حسب
تفكيره. كما يُتابع أيضاً الأخبار التي توردها وسائل الإعلام من شتَّى البلاد.
ويظل يتحدَّث عن هذه الأخبار مع كل مَن يُقابله، سواء كانت أخبار السياسة أو
المجتمع، أو أخبار الرياضة أو أخبار الفن ... إنه يتغذى بالأخبار كما يتغذى
بالأحاديث سواء كان قارئاً أو سامعاً أو مشاهداً ... وفي كل ذلك لا يهتم مُطلقاً
بأخبار نفسه، ماذا عن حياته الروحية؟ وماذا عن سقوطه أو قيامه أو نموه؟ وماذا يمكن
أن يفعله من أجل صلاح نفسه ... إنه يعيش دائماً خارج نفسه.
«« شخص ثالث كل همّه واهتمامه في أموره المالية
ومشروعاته الاقتصادية، وكيف يزيد ماله وتنمو ثروته، مع أخبار السوق والبورصة، وسعر
الدولار والاسترليني واليورو. المال بالنسبة إليه هو كل شيء. هو الذي يشغل ذهنه
وقلبه، وتتركَّز فيه كل عواطفه. بنجاحه في حساباته المالية يفرح، وباهتزازها بعض
الشيء يحزن ... إنه أيضاً يعيش خارج نفسه. يعيش وسط الحسابات، دون أن يقيم أي حساب
لحياته الروحية وعلاقته بالله.
«« شخص رابع لا تشغله سوى متعته الشخصية، وكل
ما يتعلَّق بأمور اللهو، أو اللذة الحسية. تفكيره يدور حول الأفلام والمسرحيات،
وحول اللقاءات والعواطف السطحية، والرحلات والحفلات، وما يعجبه من الغناء
والموسيقى، وأيضاً ما يلذ له من الطعام والشراب ... كلها أمور خاصة بالجسد
وبالحواس. أمَّا نفسه، وأمَّا ضميره، فأمور لا تخطر له على بال، ولا تلاقي منه
اهتماماً ... إنه يعيش خارج نفسه ...
«« هناك مَن هو أخف من كل مَن سبقوه، ولكنه
أيضاً مشغول ... تشغله أسرته، ولا يُفكِّر إلا في الأولاد وفي دراستهم ومستقبلهم،
وفي زواج البنات وتكاليف كل ذلك. كما تشغله احتياجات الأسرة من: مأكل وملابس وسكن.
ولا يتحدث سوى عن الأسعار وارتفاعها، والمُرتَّب الذي أصبح لا يكفي ولا يسد
احتياجاته واحتياجات أسرته. ويظل يسهب في هذه الموضوعات وتفاصيلها. ولست ألومه في
ذلك. ولكن اللوم يكمن حول الاستغراق في هذه الأمور، دون ترك أيَّة مساحة من
التفكير والاهتمام في ما يلزم نفسه أيضاً ..! لقد قال السيد المسيح: " افعلوا
هذه ولا تتركوا تلك ". أمَّا أن ينشغل الإنسان انشغالاً كاملاً بأموره
المادية مع ترك روحياته إلى الإهمال، فهذا يضره بلا شك ...
«« يا أخي المبارك: إنَّ لك نفساً واحدة، إن
ربحتها ربحت كل شيء، وإن خسرتها خسرت كل شيء. وحقاً، ماذا يستفيد الإنسان لو ربح
العالم كله وخسر نفسه؟!
فلا ينفعك إذن أن تعيش خارج نفسك، تجذبك سائر اهتمامات الدنيا، وتستولي على كل
فكرك وقلبك ومشاعرك ووقتك واهتماماتك، وتبعدك عن العناية بروحك، وكأنك في غيبوبة
كاملة عن حياتك وعن مصيرك!! ولعلني هنا أسألك: متى تستيقظ؟ متى تُفكِّر في أبديتك،
أعني في الحياة الأخرى ومصيرك فيها؟
«« هذا الأمر الجوهري يحتاج منك إلى فحص الذات،
ومراقبة الذات، ومحاسبة الذات، والعمل على تقويم الذات، وعلى نموها في حياة
الفضيلة والبِرّ، وفي تكوين علاقة عميقة بينك وبين الله، وعلاقة طيبة مع سائر
الناس ...
««
إذن افحص ذاتك. إجلس قليلاً مع نفسك، كما تجلس بالساعات مع الآخرين. واهتم
بحالة هذه النفس كما تهتم بحالات غيرك من الناس، وتعلّق على أقوالهم وتصرفاتهم
وطباعهم ... هل فحصت ما هى طباعك؟ على الأقل ما هو الثابت منها الذي لا يتغيَّر.
وماذا يقول الناس عنك، في السرّ أو في العلن، وبخاصة الذين يتضايقون منك أحياناً
...
«« وفي فحصك لنفسك، لا تحاول أن تُبرِّر ذاتك
في كل ما تفعل. ولا تحاول أن تلتمس لنفسك الأعذار في كل خطأ يلومك عليه الآخرون.
إنما كُن عادلاً كل العدل في الحُكم على كل أعمالك وأقوالك، دون محاباة لنفسك.
«« حاسب نفسك محاسبة دقيقة على كل تصرُّف، بل
على كل ما يجول داخلك من مشاعر وأفكار ومن نيَّات وأغراض. واذكر باستمرار قول ذلك
المُرشِد الحكيم في نصيحته: " احكُم يا أخي على نفسك قبل أن يحكموا عليك
". ونتيجة لهذا كله، اعمل على تقويم نفسك، وعلاجها من كل ما يشينها. وابحث عن
مسببات الأخطاء، وحاول أن تتفادها، وتحترس من جهتها حتى لا تسقط.
«« وفي ملاحظة نفسك، وتفادي أخطائها، درِّب
ذاتك على فضيلة ضبط النَّفْس، فهى فضيلة كبرى ونافعة.
اضبط إذن فكرك، وحواسك، واضبط لسانك، واضبط أعصابك ... حينئذ لا يسهل سقوطك أبداً،
بل تكون على الدوام مُحترساً ومُتحفِّظاً، وسالكاً بكل تدقيق وبكل جِدِّيَّة في
جميع تصرفاتك.
«« وإن أخطأت، عاقب نفسك على أخطائك، فنفسك
تقبل منك العقوبة دون تذمُّر، كما تقبل منك اللوم والتوبيخ الذي رُبَّما لا تقبله
من الغير.
«« بهذا لا تكون في غيبوبة عن نفسك، بل مهتماً
به وملاحظاً لها، ومُلتزماً بما ينفعها، ومُحافظاً لها بعيداً عن كل خطأ وسقطة.